يَعتبر علماء الحديث أن توافر عنصر الجهالة في حال أحد رواة الحديث أو عينه سببا في الطعن في ذلك الراوي و رد روايته، وكذلك الفقهاء يعتبرون الجهالة في أي عقد أو معاملة سببا في فساد ذلك العقد و رد تلك المعاملة، في مقابل ذلك نرى أن العلاقة السائدة بين مختلف الفرقاء في الساحة الفكرية والثقافية و العلمية يغلب عليها – في كثير من الأحيان – الجهالة المتبادلة بين جميع الأطراف.
لاشك أن الجهل بالمخالف وبمرجعيته ومنطلقاته ، والتحولات التي تطرأ عليه، سبب في المزيد من التشاحن والعداء، وإن مراعاة كل تلك الأمور ووضعها نصب العين يساهم في تضييق دوائر الخلاف أو يوسع دائرة التعاذر، ويساهم في تجسير التواصل، فإن لم يكن فليس أقل من أن يجعل الخلاف منطلقا من علم و فهم بدلا من أن يتحول إلى جهالة متبادلة، والوصية الإلهية واضحة في هذا الباب {..فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة..}
وبما أن الإنسان عدو ما يجهل، فإن الجهالة سبب في الكثير من العداوات التي لو دخلها عنصر العلم بالطرف الآخر والفهم له، لكان التفهم الذي يقود إلى التفاهم سبب لخلق مساحات من التواصل.

لو كنتَ تعلمُ ما أقول عذرتني *** أو كنتُ أجهلُ ما تقول عذلتكَ
لكن جهلتَ مقالتي فعذلتني *** وعلمتُ أنك جاهل فعذرتكَ

وأسوأ ما في الجهالة أن يجعلها الإنسان منطلقا للحكم على الآخرين ويبني على تلك الأحكام أحكاما أخرى، ثم يتخذ من إغراقه في الجهالة مستندا يرجع إليه و حجة يحتج بها، و هكذا فهو ينتقل من جهالة إلى أخرى فيغرق في الجهل المركّب، يقول أبو تمام :

أَبَا جَـعْــفَرٍ إنَّ الجَهـالَةَ أُمُّها *** وَلُودٌ وأُمُّ العِلْمِ جَدَّاءُ حائِلُ
أَرَى الحَشوَ والدَّهْمَاءَ أضحَوْا كأَنَّهمْ *** شُعُوبٌ تَلاقَتْ دُونَنَا وقَبَائِلُ
غَدَوْا وكأنَّ الجَهْلَ يَجْمَعُهُمْ بهِ *** أَبٌ وَذَوُو الآدَابِ فيهمْ نَوَاقِلُ

إن مظاهر تأصل الجهالة في النفوس و العقول كثيرة ، و منها :

1- أن يظن الإنسان أن ما توصل إليه – أو توصل إليه مذهبه و مدرسته – من علم أو فهم هو شيء نهائي مكتمل لا يمكن الإضافة عليه، فضلا عن تغييره وتبديله، مع أن تراث العلماء في الإسلام زاخر بمقولاتهم و مواقفهم التي تدور حول ذم التكبر على العلم، و اكتفاء الإنسان بما توصل إليه .

2- أن يكون الارتباط بالمدرسة أو الاتجاه الذي ينتمي إليه قد أُسس على قاعدة عاطفية من الرغبات و الأحاسيس و المشاعر، ثم تأتي محاولات العقل والعلم متأخرة لتضفي صبغتها على تلك العواطف .

الحبُّ أوّلُ مايكون جَهالةً *** فإذا تَمكَّنَ صارَ شُغْلاً شاغلا

و ينشأ عن ذلك استبعاد أي احتمال للخطأ أو الوهم أو القصور قد يصيب المذهب أو الرأي، ويكون المنتمي في هذه الحالة له قدرةٌ تعمل تلقائيا وأحيانا بعبارات محفوظة للرد أو تأويل أو تبرير أي استدراك أو خطأ أو قصور يقع في المذهب أو المدرسة .

3- تكوين صورة عن المخالف عبر وسطاء لا يلتزمون الحياد أو الموضوعية في النقل، وذلك عن طريق :

أ – الاجتزاء المشوِّه للأفكار و النصوص.
ب- تعميم الاستثنائي من الآراء و الأقوال.
ج – الاحتجاج بلازم المذهب و الرأي، و إن لم يلزم.
د- عدم مراعاة التطورات و التعديلات التي تطرء على المدرسة و المذهب ، و اعتباره كتلة صلدة غير قابلة لإعادة التشكل و التحول .

إن انتشار التعصب وعقلية البعد الواحد وتقديس الأفراد وتقديمهم على المنهج والمبدأ ، والكيل بمكيالين ، والتعميم ، واضطراب ردود الأفعال ، وانعدام الدقة والانصاف .. وغيرها من الأدواء الفكرية والمنهجية تعتبر إفرازا طبيعيا للإغراق في الجهالة القائمة و المتبادلة في المجالات المختلفة، بل في الحياة العامة، وفي مثل هذه الظروف يكون الجهد المبذول في إقناع الجاهل بجهله أشد من الجهد المبذول في تعليمه .

إِنَّ اللَبيبَ إِذا تَفَرَّقَ أَمرُهُ *** فَتَقَ الأُمورَ مُناظِراً وَمُشاوِرا
وَأَخو الجَهالَةِ يَستَبِدُّ بِرَأيِهِ *** فَتَراهُ يَعتَسِفُ الأُمورَ مُخاطِرا

Scroll to Top