ونحن في أول أيام هذا الشهر المبارك لا بد من الحرص على تصحيح البدايات، فكما أن الأمور بخواتيمها، فإن البدايات الصحيحة هي سر النهايات الموفقة، يقول ابن عطاء الله: “من علامات النجح في النهايات، الرجوع إلى الله في البدايات” و “من أشرقت بدايته، أشرقت نهايته” فالبدايات المتعثرة تحط من همة المسلم لمواصلة مسيره في السير إلى الله، كما أنها قد تنذر بنقصٍ في النهايات، مما يؤدي إلى إغلاق باب القبول.

و لكن كيف تكون البداية صحيحة؟

البداية الصحيحة تكون بتجريد النية لله وحده، وتخليص القلب من إرادة سوى الله، وبذلك يكون العبد قد وضع رجليه في أولى معارج القبول، بعد أن يحقق ركنه الثاني وهو المتابعة الصحيحة، أما إذا شابت القلبَ شوائبُُ من إرادة غيرِ الله فإن العمل لا قيمة له، كالجسد الذي لا روح فيه، يقول ابن عطاء الله: “الأعمال صور قائمة، وأرواحها: وجود سر الإخلاص فيها” فكما أنه لا قيام للروح بدون صورتها، فكذلك لا عبرة بصورة لا روح فيها. 

إن النية في أداء الأعمال يجب أن تكون خالصة لله وحده لا شريك له، و في ذلك يقول ابن عطاء الله: “كما لا يحب العمل المشترك ، كذلك لا يحب القلب المشترك، العمل المشترك لا يقبله، و القلب المشترك لا يقبل عليه” لذلك فلا يتحقق القلب بمعاني الإخلاص حتى يخلو في توجهه إلى ما سوى الله تعالى، فعند ذلك يكون العمل أدعى للقبول، ويجد العبد حلاوة عمله، وانشراح صدره واطمئنان قلبه، فيكون أهلا لأن يفتحِ اللهُ عليه من فتوحاته التي يهبها عبادَه المخلصين، وفي ذلك يقول ابن عطاء الله: “فَرّغ قلبك من الأغيار يملأه بالمعارف والأسرار” .

و من المعروف أن الرياء هو نقيض الإخلاص، فإذا كان الإخلاص هو إرادة وجه الله وحده في العمل، فإن الرياء هو العمل من أجل استجلاب رضى الناس وثنائهم، لذلك فإن ابن عطاء الله يعالج قضية الرياء ولكن من زاوية دقيقة، فيقول: “ربما دخل الرياء عليك من حيث لا ينظر الخلق إليك” فالإنسان قد يعمل العمل الصالح في السر، ودون أن ينظر إليه أحد، لكنه في قرارة نفسه يتمنى أن يراه الناس وهو متلبسٌ بالعبادة، و هذا من مداخل الرياء الخفية على قلب الإنسان، لا يتنبه لها إلا من رزقه الله البصيرة، يقول: “استشرافك أن يعلم الخلق بخصوصيتك  دليل على عدم صدقك في عبوديتك” فتَطَلُّع الإنسان ورغبته في أن ينظر الناس إلى عبادته هو من مسالك الرياء الخفية والتي قد لا يسلم منها أشد الناس حرصا على الإخلاص، فالعبادات التي يؤديها المسلم ما هي إلا قربات من العبد لسيده الأوحد، فلا ينبغي أن يكون باعثه فيها إلا طلب القرب منه وحده، أما إن تعددت البواعث على تلك القربات فإنها تكون هباء منثورا {وَقَدِمْنَا إِلَىٰ مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا} 

ثم يشير ابن عطاءالله إلى ما قد يداخل الإنسان من اغترار عند التزامه الإخلاص، فهو لا يكتفي بتبيان أهميته، و إنما يتعدى ذلك إلى التنبيه إلى ما يختلط بهذا الإخلاص من أمور قد تفسده، فيقول: “ما أرادت همة سالك أن تقف عند ما كُشف لها … إلا ونادته هواتف الحقيقة: إنما نحن فتنة فلا تكفر”

فالإنسان عندما يتوجه بكل كيانه إلى ربه فإنه يفتح عليه، وينوّر قلبه، ويشرح صدره، وهنا قد يركن إلى ذلك الفتح، ويغتر بإقبال الله عليه، فتقف همته عند هذا الفتح، ولا يطلب المزيد، وعند ذلك قد يتحول قصده وهمته من طلب رضوان الله، إلى الرضا والركون بما فُتح له، فيكون بذلك قد انحرف بإخلاصه لله تعالى الذي إليه المقصد.

و من هنا كان اغترار الإنسان بإخلاصه في عمله هو بداية هلاكه وحجب القبول عنه، فالعمل هو محل التقصير والاتهام دائما، فمتى ما شهده الإنسان وركن إليه فإن ذلك مؤذن بعدم القبول، و قد نبهنا النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك فقال: «لَنْ يُنْجِيَ أَحَداً مِنْكُمُ عَمَلُهُ» قَالَ رَجُلٌ: وَلاَ إِيَّاكَ يَا رَسُولَ اللّهِ؟ قَالَ: «وَلاَ إِيَّايَ إِلاَّ أَنْ يَتَغَمَّدَنِيَ اللّهُ مِنْهُ بِرَحْمَةٍ، وَلكِنْ سَدِّدُوا» فهذا أصل عظيم من أصول الإخلاص. 

و يؤكد ابن عطاء الله على هذا المعنى العظيم بطريقة أخرى فيقول: “لا تُفرحك الطاعة؛ لأنها برزت منك، وافرح بها لأنها برزت من الله إليك” فالفرح بالطاعة يكون مذموما إذا ظن الإنسان أنها برزت منه وأنه متفضل بها، وأنها سبب نجاته، ” فالاعتماد على العمل من أصول العِلَل” فالفرح يكون بفضل الله وتوفيقه لا بذات العمل الذي لا يخلوا من نقص وزلل، فلولا توفيق الله للعبد لأداء هذه العبادة لما قام بها، فالفضل لله أولا وأخيرا. 

ولو لم يكن عون من الله للفتى *** فأول ما يقضي عليه اجتهاده

Scroll to Top