يستحسن الناس بطبيعتهم سلوك المتواضعين، وتنشرح نفوسهم للتعامل معهم، فالمتواضع محبوبٌ مطلوب، بخلاف المتعالي على الخلق، فإنه مرذول مذموم.

يحاول ابن عطاء الله الغوص في أعماق النفس الإنسانية لدراسة سلوك المتواضعين بعيدا عن ظاهر السلوك، فإن السلوك الخارجي له جذور في النفس البشرية، ومن هنا كانت الأخلاق في حقيقتها ليست مجرد تعاملات خارجية، وإنما هي حال للنفس راسخة وعميقة، تصدر عنها الأفعال، ما لم يكن الخُلُق عميقا في نفس صاحبه، فإنه يتبدد، عند أو اختبار أو عند زوال الحاجة إليه، يقول المتنبي:

و للنفس أخلاق تدل على الفتى *** أكان سخاء ما أتى أم تساخيا

 لذلك يبحث ابن عطاء الله عن جذور التواضع في نفوس الذين يتمثلون هذا الخُلق في سلوكهم، فينبه على أن المتواضع ليس ذلك الذي يتكلف هذا الخلق ليثْبتَه لنفسه، فيقول: “من أثبت لنفسه تواضعا فهو المتكبر حقا: إذ ليس التواضع إلا عن رفعة؛ فمتى أثبتَّ لنفسك تواضعا فأنت المتكبر حقا” 

وفي ذات السياق يقول: “ليس المتواضع الذي إذا تواضع رأى أنه فوق ما صنع، ولكن المتواضع، الذي إذا تواضع رأى أنه دون ما صنع”

فالتواضع هو نكران حقيقي للذات، وليس مجرد ادعاء أو تظاهر، فالمتواضع الصادق هو العارف بذاته معرفة تجعله يتصاغر أمام مدح المادحين، وقد روى البيهقي عن بعض السلف أنه يرى أن مدح الإنسان في وجهه أمر يستوجب توبة الممدوح، والتوبة من ذلك أن يقول: اللهم لا تخذني بما يقولون، واغفر لي ما لا يعلمون، واجعلني خيرا مما يظنون.

فالمتواضع هو الذي لا يرى لنفسه فضلا مهما كان فاضلا، لأن الفضل لله وحده، وقد حكى ابن القيم في المدارج أن هذا مذهب بعض السلف كالفضيل وغيره، وهذا ما عبر عنه ابن عطاء الله بقوله: ” التواضع الحقيقي هو ما كان ناشئا عن شهود عظمته، وتجلي صفته” ومن هنا نعلم أن استشعار عظمة الله وكماله وكبريائه، و كل صفات عظمته هو السبيل إلى التحقق بخلق التواضع، فـ “من أراد التواضع فليوجه قلبه إلى عظمة الله تعالى فإنه يذوب ويصغر، ومن نظر إلى سلطان الله تعالى ذهب سلطان نفسه، لأن النفوس كلها حقيرة عند هيبته” 

و هذه خير وسيلة تعين الإنسان على تحقيق معنى التواضع في نفسه، وهذا الأمر لا يأتي بين ليلة و ضحاها، و إنما يحتاج إلى مجاهدة للنفس، يكسر الإنسان بها رعونات نفسه الأمارة بالسوء كي يرتقي بها إلى مدارج النفوس المطمئنة.

Scroll to Top