“إنما لا يستوحش مع الله مَن عَمَرَ قلبه بحبه، وأنِسَ بذكره، وألِفَ مناجاته بسره وشُغل به عن غيره، فهو مستأنسٌ بالوحدة، مغتبطٌ بالخلوة”

من وسائل تزكية النفس التي سلكها الأنبياء والحكماء والفلاسفة والعلماء: اعتزال الناس، كوسيلة لصفاء الذهن، وتهذيب النفس، ففي العزلة تتاح للإنسان فرصة مواجهة الذات، ومراجعة النفس بعيدا عن الملهيات والمشغلات -وما أكثرها في هذا الزمان- التي تشوش ذهن الإنسان وتعكر صفوه، فتمنعه من مشاهدة نفسه بمرآة صافية تنعكس فيها صورة الإنسان الحقيقية.

 تناولت موسوعات الأخلاق وكتب التصوف والتزكية في التراث الإسلامي مسألة العزلة بالتأصيل والتفصيل، فتنوعت مناهج العلماء وتعددت مذاهبهم في تناولهم للعزلة كوسيلة للوصول إلى المراتب العليا في تهذيب النفس وفي السير إلى الله، وقد أفرد أبو سليمان الخطابي كتابا حمل عنوان “العزلة” فصّل فيه وأسهب ..

تناول ابن عطاء الله هذه المسألة في حِكَمه، فكان مما قال: ” ادفن وجودك في أرض الخمول، فما نبت مما لم يُدفن لا يتم نتاجه” فالخمول هو عدم تعاطي أسباب الشهرة، وهو بمثابة حجب النفس عن التصدر، وشبّه الخمول بالأرض التي تُدفن فيها البذرة التي لا تنبت ولا يتم نتاجها حتى تحتجب تحت الأرض لتأخذ منها عناصر القوة وأسباب الحياة.

 ويحدد بعدها الهدف والغاية من العزلة عبر تساؤلاته: ” كيف يشرق قلب صور الأكوان منطبعة في مرآته؟ أم كيف يرحل إلى الله، وهو مكبل بشهواته؟” فالإغراق بالمخالطة  شكل من أشكال الانغماس في الدنيا، الذي ينتج عنه نسيان الذات، وانطماس البصيرة، وفي هذا الانغماس يغيب الإنسان عن مراقبة ذاته، فتصبح الدنيا أكبر همه، ويصبح الخَلق مبلغَ علمه {ذلك مبلغهم من العلم} بعد أن انطبعت صورة الأكوان في قلبه على وجه لا يقبل غيرها، وذلك يقتضي العبودية لها، وهنا يطرح ابن عطاء الله “العزلة” كعلاج لهذه الحالة فيقول: “ما نفع القلبَ شيء مثلُ عزلة يدخل بها ميدان فكرة”

في هذه الكلمات لخص ابن عطاء الله نظرته للعزلة التي يحتاجها السالك إلى الله كدواء، فإذا أفرط  الإنسان في المخالطة، كثرت علائقه، فيضيع وقته لملاحقة تبعات ذلك، وإذا ضاع وقته تعذر عليه تكميل نفسه علما وعملا وحالا، وعند ذلك تصبح العزلة مطلبا لهذه النفس حتى تتخلص مما علق بها من استشراف للذكر الحسن، وتطلع للخلق وما عندهم، والبحث عن مرضاتهم ومسايرتهم، فالإنسان إذا خلا بنفسه وجال بفكره في ملكوت الله، انعكس ذلك في قلبه، فيجلو عنه الصدأ، ووتتنور بصيرته.

ومادام الإنسان في حالة خلطة دائمة، فإن قلبه في شغل دائم عن الله، فمثيرات الشهوات والأهواء تتعرض للإنسان في المخالطة، فتعكر صفاء نفسه، وتفسد سكون روحه، والعزلة تقطع ذلك، ولله در القائل : 

عش خامل الذكر بين الناس و ارض به **** فذاك أسلم في الدنيا و في الدين 

من عاشر الناس لم تسلم ديانته *** و لم يزل بين تحريك و تسكين 

حديث العلماء عن العزلة لا يقصد منه الاعتزال المطلق للخلق والدنيا، بل ذلك أمر غير محبب، لكن العزلة المقصودة هي ما تكون بمثابة جرعات يلجأ إليها السالك لتحقيق الغرض منها، وهو تزكية النفس، كما روي عن عمر رضي الله عنه قوله: خذوا بحظكم من العزلة، ويُستأنس في ذلك بخلوة النبي صلى الله عليه وسلم في غار حراء قبل البعثة، وبسنة الاعتكاف في رمضان وغيره، وما فتئ ذوو العقول في العالم يسلكون ذلك السبيل بحثا عن فسحة للتفكر والتدبر “فالعزلة منزل الفكرة”. 

Scroll to Top